كلمة الزبيدي عام 2002 في مهرجان بيت النجمة

في المهرجان الحادي عشر عام 2002م – 1423 هـ  ألقى الأستاذ المهندس باقر جبر الزبيدي (بيان جبر) 
ممثل المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق كلمة قال فيها :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إذا كانت الزهراء (ع) بضعة النبوة و هدية السماء هي أم أبيها كما يقول القائد الرسول محمد (ص) فالسيدة زينب (ع) هي أم أبيها وأخويها (ع) هذه الأمومة الزينبية لعلي وللحسين (ع) جزء حيوي من نهج في الأمومة النبوية وهؤلاء أهل بيت محمدي رسالتهم تذكير للأمة ونصوصهم تذكير بها، فإذا برز أحدهم إلى دوره وحضوره في الحياة واجه الدور كمحمد وتطلع إلى الحياة كما تتطلع الشمس الدافئة لمحيط من المياه المتجمدة.


السيدة زينب بنت علي (ع) دور رسولي وشاخص قرآني وسيف مجرد في الحق ممتلئ باليقين متحصن بمشروع الولاء لله ورسالاته وكتبه، غير مجرد أدواته بل معزز بها هذا الدور يخرج هذه السيدة الفاطمية-المحمدية من دائرة الدمعة والحزن والمأساة التي حددتها أدوات قراءة التاريخ به إلى دور علي ورسالة محمد وقضية الحسين ومشروع الزهراء وفي يوم ولادتها المصادف للخامس من جمادى الأولى يجب أن يتحول الاحتفاء إلى محور حقيقي من محاور القراءة السليمة -النقدية- الموضوعية لمشهدية هذه المرأة المحمدية.
فكيف نقرؤها في بطون الكتب بل كيف قرأناها و نحن ندرس التاريخ وكيف يجب أن نقرأها بعد أن اتسعت الرؤية وتمددت العبارة وانكشف الأفق عن ثقافة للإسلام تتجاوز الموروث المكتوب إلى المضمون المستور في خافق التاريخ؟ كيف نعي حقائق تاريخ هذه السيدة التي كانت أم علي (ع) بعد رحيل الزهراء و أم الحسين (ع) بعد شهادة علي، كيف نعي دورها و هي تتبنى أمومة البيت الهاشمي بعد شهادة الحسين بعد جولات شهدت فيها مصرع الأخوة وانقلاب الأمة وتمزق الدولة وتحولها من دار للإسلام إلى زنزانة لبني أمية؟
هل لدينا شيء من فقه زينب وقيمها الاجتماعية الإنسانية والثقافية وهي التي عاشت ردحاً من الزمن في كنف عائلة وبيت وظيفته العلم والقيم وأولوياته الثقافة ومغانم المعرفة؟ هل لدينا شيء من زهدها بالامتيازات الدنيوية السياسية والمادية وتواضعها الفاطمي الكبير وهي التي عاشت مدة من الزمن كريمة لزعيم الأمة وحفيدة لنبي الأمة وشقيقة لسبطين لطالما أحاطهما جدهما برعاية قلبه وحنان روحه وأحكام سنته ونصوصه وتعبيراته بأنهما سيدا شباب أهل الجنة؟
كل الذي قرأناه في بطون التاريخ وما نسمعه على المنابر وما يجول من عناوين فكرية في المكتبة العربية والإسلامية لا يتعدى الدمعة الحرى في ساحة الحرب بكربلاء والحسرة المذبوحة في الصدر على مقتل الأخ والابن والأحباب من أهل البيت، ولا يتجاوز أيضاً مستوى التعبير عن ضرورة إبقاء قضية الشقيق المذبوح حية في صدور الموالين والمخلصين من شيعة آل محمد (ع) وكأن هذه السيدة العظيمة صاحبة الدور العظيم لم تكن وظيفتها إلا الندب والبكاء والولاء الممزوج بالتعاطف مع ثورة الشقيق وقضيته السياسية.
وهذا ليس ولن يكون الحقيقة... الحقيقة أيها الأحبة في مكان آخر وفي زاوية أخرى من التاريخ القضية هي أن السيدة زينب (ع) كان لها دور يوازي دور أي إمام من الأئمة (ع) ولم يختلف أو يتراجع أو يضعف هذا الدور لا في حياتها وهي في بيت علي ولا في ساحة المعركة بكربلاء ولا في حياتها الاجتماعية والسياسية وهي المديرة المدبرة للقرار وصياغاته العلوية المحمدية ولا في عزلتها المختارة هنا في هذه الأرض المباركة بها.
بل إنني أذهب إلى أبعد من تسمية ما قامت به بالدور إلى القول بأن هذه المرأة السماوية المؤدبة في مدرسة العرش المتأصلة في دائرة التعاليم النورانية بمحمد المتألقة كالمصباح الدري في بيت علي هي محمد وعلي والحسن والحسين، هي الزهراء، هي شقيقة بهاء المدرسة المحمدية وأمها وهذه الانعكاسات ما كان لها أن تتجسد في صورتها الدرية ونموذجها الحركي العالي وحقيقتها القيمية النبيلة لولا ما ظهر منها يوم كربلاء، كربلاء كانت الإيضاح والمشهد الكاشف لروح النبوة وتجلياتها السمحاء في مرحلة بانت فيها حقائق الناس وتوضحت رغباتهم وخوفهم وشجاعتهم، نبلهم وزيفهم، مروءتهم وخيانتهم في مواجهة تحدي ظهور الروح المحمدية الشاخصة التي كانت تعسكر في الطرف الآخر من قيامة القضية الإسلامية.
و لعل هذا الأمر، كون زينب تمثل روح النبوة وصحوة الإمامة وضمير الثورة هو الذي دفع بالحسين وهو جزء من دوره في روح النبوة، أن يصحب شقيقته وروحه وامتداده وحيوية المشروع الثوري بل أن يصحب سيفه ومدرعته وترجمان فلسفته وناطقته المسلحة معه إلى ساحة القضية.
لم يكن الأمر صدفة إذاً (كأني بأوصالي هذه تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء) وحين طولب الإمام بتفسير لأمر اختياره الصعب باصطحاب العائلة الهاشمية وزعيمتها وقيادتها النسوية زينب أكد وهو يتطلع لأخته بل يتطلع إلى روحه (شاء الله أن يراني قتيلاً و يراهنَّ سبايا) إلا أن قضية السبي التي اشتغل الأمويون على بعدها السياسي السلبي حولتها هذه العظيمة المحمدية إلى قضية احتجاج هو الأبلغ والأكثر إحراجاً لسياستها وممارستها وجريمتها الشنيعة بحق الإسلام ورموزه وقضاياه ولعل السيدة زينب (ع) هي التي وضعت نهاية لمسرحية الحكم السفياني عندما عرَّت الوجوه الشوهاء والسياسات العمياء والقيادات الجاهلة والنفوس الحاقدة بصبر وجلد استعادت بهما صبر وجلد جدها في دعوته وأبيها في دفاعه عن كيان الشريعة والدولة الإسلامية ودم أخيها المقدس الطاهر الذي فجر خيلاء السفيانية في عقر دارها.
هذا نص أطلقه أحد الذين شهدوا مقتل الحسين؛ كان رأى زينب (ع) و هي تشهر سلاح المواجهة بعد نهاية المعركة كأنها أرادت أن تؤكد للمجتمع الذي سارت وسط جموعه المختلفة وشرائحة الميتة وناسه المنهوكين لكثرة القمع والإرهاب والدم بأن قضية الحسين لن تنتهي بقتله بل تبدأ به ولن تخبو شعلتها بل ستزداد وستسري كما تسري النار في الهشيم وما أنتم أيها القوم إلا رماد القمع لا رماد القضايا الكبيرة كما صنع أولئك الصامدون خلف سيوف القافلة المحمدية هناك بين الصحراء والفرات فذادوا عن الحسين وقدموا أنفسهم رخيصة جزاء الوقوف مع الحق لأن الحسين فلسفة الحق وجنته وجمهوريته.
يقول هذا الرجل وكان موكب السبايا يمر بالأوساط في الشام (فلم أر والله خفرة أنطق منها، كأنما تنزع عن لسان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فلا والله ما أتمت حديثها حتى ضج الناس بالبكاء وذهلوا وسقط ما في أيديهم من هول تلك المحنة الدهماء)، لقد مثلت هذه السيدة المحجبة النبيلة المذبوحة بثلاث وسبعين رجلا من أشقائها وأبنائها وأحباب أخيها سيرة أم شهيدة ومسيرة أب شهيد ومشروع أخ ذبيح لكنها تعاملت مع تلك القضية بما تقتضيه القضية لا على خلفية الندب والبكاء والعزاء وحسب، لأن التركيز على هذا البعد دون تأصيل الأبعاد السياسية والفكرية والعقيدية والحضارية في القضية الحسينية سيفقد الدمعة حيويتها واستمرارها، ولو كانت السيدة زينب (ع) اكتفت من الثورة بالندب والبكاء والتذكير بالشقيق المذبوح لا بالزعيم شهيد القضية الإسلامية المقدسة لكانت شعلة الثورة انطفأت ولتحول الحسين إلى قصيدة شعر لا تقرأ إلا في المناسبات ولا تكتب إلا في المواسم.
لقد كانت بنت علي أم الثورة بامتياز تماماً كما كانت الزهراء أم محمد في دعوته و أم علي في قضيته، اسمعها الآن وقد اكتفت بتذكير المجتمع المتخلف الخائف ووضعته أمام حقيقة خوفه وجشعه وحبه للمال وعبادته للبلاط الأموي، اسمعها وهي تخاطب قطب الجريمة وزعيم الدولة الجاهلة يزيد بقولها: (أظننت يا يزيد بأن أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الإماء أن بنا هواناً على الله وبك عليه كرامة وإن ذلك لعظم خطرك عنده فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك جذلان مسروراً حيث رأيت الأمور لك متسقة والدنيا مستوسقة وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا... فمهلاً مهلاً لا تطش جهلا) بهذه المفردات التي تفوح منها البطولة وتشب في جدرانها الشجاعة والحكمة والجرأة تتحدث هذه المرأة العظيمة كأنها تنطق عن علي وقيمه وعن محمد وقرآنه ورسالته وعن الحسين وثباته على الحق واستبساله فيه وجرأته في تحدي الظلم وقبول المواجهة ولقد بقيت سيدتنا زينب (ع) على خط البطولة و الشموخ والإرادة الصلبة هذه من دون أن يرف لها جفن أو تخيفها المواقف الميدانية القاسية ومصارع الجثث ومشهد الحسين المذبوح.
وكيف تهتز العالمة المعلمة والفاضلة الفقيهة النبيلة والميراث المحمدي المؤصل في بيت الإمامة المثقف بين متراس الحسين وراية العباس وهما نافذتا جرأة بقيت طوال عهود وعهود ومراحل طويلة من الانقلابات الإنسانية وتفاوت الأجيال وتعاقبها تحفر عميقاً في وجدان الناس وأعماقهم بل نقول بدلاً من أن تحدث هذه القضية المأساوية والمحنة بشكلها وطبيعتها القاسية صدمة موجعة وارتداداً خفياً في روح هذه السيدة حولت زينب أم علي والحسين كربلاء وساحتها إلى قضية إسلامية كونية مستمرة مادام هنالك شهداء وأجيال ومفكرون وفقهاء وقوى إسلامية تحلم بعودة الإسلام حاكماً والحسين إماماً.
لم تجرَّ المحنة الجانبَ النفسي للسيدة زينب إلى الضعف والخوف بل كانت تخاطب يزيد بقولها (لئن جرَّت عليَّ الدواهي مخاطبتك إني لأستصغر قدرك وأستعظم توبيخك ولكن العيون عبرى والصدور حرى).
بعد معركة كربلاء بيومين دخل عبيد الله بن زياد على السيدة العلوية العظيمة زينب وكان أيام ذاك والي العراق أو كما تقول الرواية أدخلوا السيدة زينب في مجلس ابن زياد فيلتفت إليها ويسألها: (كيف رأيت صنع الله بأخيك؟) تجيبه وقد تفجرت الكلمات من بين ضلوعها وفجرت المكان كذلك: (والله ما رأيت إلا جميلا. هؤلاء الناس كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجّ وتُخاصَم فانظر لمن الفلج يومئذ ثكلتك أمك يا ابن مرجانة).
على هذا الأساس كان لابد من استحضار كل الأدوات التفسيرية المنفتحة على شخصية السيدة زينب لنقرأ من خلالها قيمتها الذاتية كامرأة قيادية في الأمة مارست في أطار النبوة والإمامة وأعدت نفسها بما ينسجم وأهداف الإسلام وحركته ودعوته المباركة، كما تجب دراسة مسلكيتها في الدعوة للثورة وتعاطفها الوجداني والنفسي والسياسي معها لأنها لم تكن ثورة سلطة أو ثورة أسرة في المدينة قدر ما كانت ثورة قيم ومبادئ وأفكار، دعوة إسلام يتحدى الظلم والقمع والاستبداد وينتصر للحياة عبر الموت والشهادة .
لقد أرست سيدتنا زينب معالم تحرك إسلامي منفتح على مشروع تنمية العالم الإسلامي في جميع تطلعاته ومسؤوليتنا نحن كمثقفين وعلماء وحوزات علمية وباحثين تاريخيين أو باحثين في التاريخ وأيضاً مسؤوليتنا كمرجعيات دينية ومواقع إسلامية تسعى لتطبيق أمثل للشريعة الإسلامية أن نقرأ اتجاهات حركة ومشروع هذه السيدة العظيمة لأنني أشعر بالظلم الاستثنائي الذي تتعرض له زينب بنت علي (ع) كلما طالعت دورها في تاريخ التجربة الإسلامية لا أن نتخلف عنها فيصيبنا ويصيب وعينا لتاريخ الإسلام ما أصابنا بالأمس وجعلنا نتراجع عن اللحاق بركب الوعي الإسلامي المفترض.
أجدد التهاني والتبريكات القلبية لكم بمناسبة ولادة أم أبيها زينب بنت علي وأتمنى من الله عز وجل أن يجعل تلك الولادة ولادة العدل والمساواة وانتصار حقيقة الإسلام في كل الدنيا وما ذلك على الله بعزيز. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وفي عام 2007 م زار مدينة دمشق كوزير لمالية جمهورية العراق وقدم له درع النجمة المحمدية 


تحرير المقال
عن الكاتب
مقالات مشابهة

ليست هناك تعليقات:

أو يمكنكم الإتصال بنا من خلال النموذج التالي

الاسم بريد إلكتروني* رسالة*

التعليقات

تعليقات الموقعفيس بوك